كلما اعتقدت أنك أمام أسوأ جريمةٍ حدثت تحت مرأى القانون، تذكر أنك لم تسمع الجزء الأسوأ بعد، فهو في نهاية المقال!
من أين نشأت الفكرة؟
كأي دراسةٍ سريريةٍ أخرى… بدأت هذه الدراسة بهدفٍ يفترض أنه كان نبيلاً…
لقد سمع بعض الأطباء والباحثين بالدراسة الراجعة التي درست التطور الطبيعي للسفلس (syphilis، الزهري، أو الإفرنجي) غير المعالَج لدى الرجال من العرق الأبيض.
وكان هدفها معرفة الاختلاطات والمشكلات التي يمكن أن يسببها، ومعرفة ما إذا كان بحاجةٍ للمعالجة أم يكفي تركه للشفاء العفوي.
جمعت تلك الدراسة المعلومات من السجلات الطبية القديمة للمرضى ومن استجوابهم، ولم تكن تجربةً سريريةً.
خلصت تلك الدراسة إلى توصياتٍ بعلاج السفلس نظراً للاختلاطات الخطيرة التي يسببها، وذلك رغم عدم وجود علاجٍ ناجعٍ فعلاً وغير سامٍ في ذلك الوقت.
ولكن بما أنها كانت دراسةً راجعةً من السجلات القديمة، فقد كان يمكن أن تحمل أخطاءً.
ومن هنا قرر الباحثون والأطباء القيام بما هو أكبر وأكثر موثوقيةً من ذلك… وهو إجراء تجربةٍ سريريةٍ يُمنَع فيها المصابون من أخذ الدواء ويراقبون دورياً لمراقبة تطور المرض لديهم!
صدقاً، لا أعلم كيف بدا ذلك لهم كفكرة جيدة!
وليت الأمور انتهت هنا.
البداية… والعنصرية
في عام 1932 بدأت التجربة تحت اسم “دراسة توسكيجي للسفلس غير المعالج لدى الرجل الزنجي” تحت إشراف وزارة الصحة والخدمات الإنسانية في أمريكا.
وكما يقترح العنوان، اقتصرت الدراسة على الذكور من العرق الأسود.
حيث تم إدخال 600 رجلاً أسود من الفقراء في الدراسة بدايةً: 399 منهم مصابون بالسفلس، و201 من السود غير المصابين، وذلك بهدف مقارنة الأمراض والتظاهرات التي يطورها كل من الفريقين
فلو تمت ملاحظة تظاهرٍ معينٍ كثير الشيوع في فئة المصابين وغائبٍ في الفئة الأخرى فهو غالباً سيكون اختلاطاً للسفلس.
يذكر أن عدد الداخلين في الدراسة ازداد مع الوقت بعد ذلك.
لم السفلس؟
السفلس من الأمراض المنتقلة بالجنس، يظهر في طوره البدئي كقرحةٍ غير مؤلمة بعد الاتصال الجنسي الملوث، ثم في الطور الثانوي يتميز بتظاهراتٍ جلديةٍ متنوعةٍ وواسعة الانتشار.
ماذا بعد الطور الثانوي؟ إذا لم يعالَج، يدخل بعده السفلس في طورٍ كامنٍ قد يمتد لسنواتٍ تغيب فيها الأعراض تماماً…
ومن ثم قد يعود بطورٍ ثالثيٍ يمكن أن يحدث ضرراً لا عكوساً في الدماغ، الأعصاب، العينين، القلب، الأوعية الدموية، الكبد، العظام، والمفاصل.
لم يكن الطور الثالثي مفهوماً تماماً في ذلك الوقت، وكانت تظاهراته هي هدف الدراسة.
تفاصيل التجربة… وانتهاكات حقوق الإنسان!
لم يأخذ الباحثون موافقة المرضى على ما كان سيجري لهم، بل وكانت الطامة الكبرى أنهم كذبوا عليهم كذلك!
قالوا لهم أنهم سيعالجونهم من “الدم الفاسد”… فلا هم أخبروهم بمرضهم الحقيقي، ولا بأنهم لن يقدموا لهم أي علاجٍ أصلاً!
وكان كل ما قدموه لهم اختباراتٍ تشخيصيةً مجانيةً تخدم أهداف الدراسة… ووجبةً مجانيةً في أيام المراقبة… وتأمين تكاليف الدفن بعد الوفاة!
وحين كان المرضى يحاولون التهرب من بعض الفحوص التي تؤلمهم أو تخيفهم كبزل السائل الدماغي الشوكي، كان يرسل الباحثون رسائل خادعةً لهم بعنوان “آخر فرصة لك لتلقي علاج مجاني مميز!”
هذه التجربة التي كان يفترض أن تمتد 6 أشهر… لم تنتهي إلا بعد 40 عاماً!
الجزء الأسوأ: الجريمة الحقيقية!
في عام 1947 أصبح البنسلين هو العلاج الأساسي المعياري والشافي تماماً للسفلس، وأصبح يصفه جميع الأطباء لعلاج الحالة
كما تم تنظيم عدة برامج صحيةٍ حكوميةٍ لاستئصال المرض تماماً في الولايات المتحدة.
لكن ذلك لم يوقف التجربة.
العلاج موجودٌ وموثوقٌ ومتوفرٌ… وتجربة مراقبة المرضى المحرومين من العلاج مستمرة.
لم يعرض الأطباء على المرضى التعالج بالبنسلين، بل وحاولوا تضليل المرضى حول مرضهم وإقناعهم بأنهم يتلقون علاجاً بالفعل، في حين كان يتم إعطاؤهم “بلاسيبو”.
ويقتبس البعض أقوالاً لهم يصرحون فيها بأنهم يبذلون جهدهم لمنع المرضى من تلقي العلاج.
أي أن التجربة استمرت 25 عاماً بعد إيجاد علاجٍ ناجحٍ وآمنٍ للسفلس… ذنبٌ لا يمكن اغتفاره مهما كانت الدوافع وراءه.
النهاية… والخسائر البشرية
بعد انتقاداتٍ واسعةٍ وعديدةٍ على مدار سنواتٍ، أعيد النظر في التجربة ووجد أنها لا أخلاقية، وما من مبررٍ طبيٍ لإجرائها، وعلى ذلك تم إنهاؤها.
كما تم رفع دعوى قضائية لتعويض المتضررين وعائلاتهم.
عند انتهاء الدراسة كان قد توفي 28 رجلاً بسبب السفلس بشكلٍ مباشر، بينما توفي 100 آخرون بسبب اختلاطاته.
كما تمت إصابة 40 امرأةً من زوجات المصابين بالعدوى (بسبب جهل المرضى بطبيعة مرضهم)
و19 طفلاً كانوا قد ولدوا مصابين بالسفلس الخلقي!
هل استفاد العلم من هذه التجربة أم راحت تضحيات أولئك الرجال سدىً؟
للأسف لم يستفد العلم منها شيئاً. وحتى الهدف الأساسي وهو “دراسة التطور غير المعالج للآفة” لم يتحقق، وذلك لأن الكثير المرضى حاولوا أن يتطببوا بأنفسهم ببعض العلاجات الشعبية أو الموضعية السائدة.
ورغم أن ذلك لم يفدهم كثيراً، إلا أنه يخل بشروط الدراسة ويجعلها غير ذات فائدة.
أتمنى أن هذه الفضيحة تركت صدىً يمنع تكرار الانتهاكات التي ارتكبتها مستقبلاً على الأقل.
المصادر:
CDC: هنا وهنا وهنا (ويمكن الوصول لمعرض الصور الخاص بالضحايا على موقع CDC)
Mayoclinic: هنا
و بيدعو أنن بحافظو على حقوق الإنسان😑