“كيف يمكن ل 72 طفلاً أن يدخلوا إلى المدرسة ذاتها، ويغادروها وقد حكم عليهم بالموت!”
غوودير
- المكان: ويلز، المملكة المتحدة. الزمان: سبعينات و ثمانينات القرن الماضي.
قبل أن نبدأ قصتنا، هل تعلم ما هو مرض الناعور؟
هو مرض وراثي يغيب فيه أحد عوامل التخثر (الثامن أو التاسع) من الدم مما يسبب للمريض نزفاً (مفصلياً عادةً) طويل الأمد قد لا يتوقف لوحده، و مضاعفاتٍ شديدةً من تشوهاتٍ في المفاصل وغيرها إثر رضٍ بسيطٍ جداً لا يسبب نزفاً عند حدوثه للأصحاء.
فلنبدأ الحكاية…
في سبعينات القرن الماضي، لم يكن يعرف الناس الكثير من المعلومات عن مرض الناعور، و كأي مرضٍ جديدٍ، فقد كان حاملوه يتعرضون للتنمر من أقرانهم، (ولربما شهدت التنمر الذي يتعرض له مرضى كورونا يومياً).
“غوودير” ذو التسع سنوات، هو أحد الأطفال المصابين بالناعور، قام أحد زملائه بضربه بعصا معدنية مما تسبب بكسر ذراعه ومرفقه، وذلك لأن زميله أراد أن يرى ماذا يحدث لمرضى الناعور عندما ينزفون!
أمضى “غوودير” ستة أشهر في المشفى بعد خضوعه لعدة عملياتٍ جراحيةٍ حتى شفي من جميع المضاعفات الناجمة عن مرضه
الخلاص على هيئة مدرسة
تم تأسيس مدارس داخلية اختصاصية لهؤلاء الأطفال المرضى وذوي الإعاقة، مزودة بمراكز صحية تؤمن عنايةً طبيةً و معالجاتٍ حديثة للطلبة دون أن تعطل دراستهم.
كان ذلك حلا مثالياً ولكن…
تبين لاحقاً أنه من أصل 89 طالباً مصاباً بالناعور كان يرتاد هذه المدرسة، لم يبق سوى 17 تلميذاً على قيد الحياة حتى هذه اللحظة، وأنه قد توفي 72 تلميذاً دون أن يصل معظمهم لسن البلوغ!
فلنتحدث قليلاً عن هذه المدرسة…
تم تأسيس وحدةٍ خاصة لمرضى الناعور في هذه المدرسة، تلقى فيها التلاميذ الرعاية الصحية و تعلموا كيفية تدبير وضعهم الصحي، بالإضافة إلى تلقيهم “العلاج المعجزة” الذي أخذ بالانتشار في البلدان كافة، والذي يتكون من عوامل التخثر المستخلصة من الدماء المتبرعة، حيث يمكن حقنها لإيقاف النزيف المهدد للحياة بسرعة.
مالذي حدث إذاً؟
في عام 1982، بدأ التلاميذ بتطوير مضاعفاتٍ وأعراضٍ غريبةٍ، فأحدهم ظهرت عليه أعراض الإنفلونزا، والثاني أخذ يتظاهر بلون يرقاني، أما آخرٌ أصيب بالهزال ثم مات فجأة!
لم يعلم عندها الطلاب أو أطباؤهم أن هذه الدماء مجهولة المصدر التي يتلقاها المرضى ملوثة، وتحوي أمراضاً قاتلة!
أخذت بعض التقارير بالظهور في الولايات المتحدة، تذكر أن العديد من مرضى الناعور المعالجين بعوامل التخثر ماتوا بسبب الإيدز -وكان يعتبر في تلك الفترة مرضاً مخيفاً ومجهولاً حتى أنه سمي ب “طاعون الشواذ”- والتهاب الكبد C الذي يعرف ب “القاتل الصامت”.
وبالفعل، استدعي “غوودير” وزملاؤه بعد فترة إلى مستوصف المدرسة، حيث تلقوا خبر إصابتهم بفيروس HIV. وتبين لاحقاً أن الآلاف من مرضى الناعور حول العالم أصيبوا بالتهاب الكبد والإيدز، في الوقت الذي أصر فيه وزير الصحة البريطاني أنه لا يوجد دليل على انتقال فيروس HIV عن طريق الدم!
تحقيقات و نتائج…
بعد فترة من الزمن، تم التحقيق في مصدر الدماء المستوردة التي يعالج بها المرضى، لتكتشف فضيحة أن هذه الدماء كانت تجمع مقابل مبلغٍ ماليٍ ضئيلٍ من المساجين ومدمني المخدرات وحتى بعض الجثث! بالإضافة إلى إعادة تأريخ منتجات الدم منتهية الصلاحية وبيعها!
راح عشرات الآلاف من المرضى حول العالم ضحية هذا الإهمال ريثما اكتشفت الأدوية المضادة للفيروسات وأصبحت بمتناول المرضى، بعد أن نقل الكثير من المرضى HIV إلى شركائهم دون أن يعلموا بإصابتهم.
أما مدرسة الناعور فلم يبقَ منها سوى 17 تلميذاً على قيد الحياة حتى هذه اللحظة، وقد أتلفت مستندات المرضى بالكامل ولم يبق أي دليل يدعم ادعاءات المصابين. ولم يتم تقديم أي نوع من التعويض أو الدعم لهم أو لعائلاتهم، إلى عام 2015 حيث قدم رئيس الوزراء البريطاني اعتذاراً للضحايا ودعماً مادياً لمن بقي منهم على قيد الحياة.
حكماً، لا يمكن أن نضع اللوم في هذه الفاجعة على المدرسة وفريقها الطبي، ولكننا حتى الآن لا نملك إجابة لسؤال “غوودير” الذي بقي على قيد الحياة ولكن خسر قدرته على العمل والدراسة بعد أن تدهورت صحته: “كيف يمكن ل 72 طفلاً أن يدخلوا إلى المدرسة ذاتها، ويغادروها وقد حكم عليهم بالموت!”
المساهمون:
إعداد وترجمة ورفع: زينة الجندي
تدقيق: د. رند الجندي